فصل: فَصْلٌ فِي حَدِّ الزِّنَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية



.فَصْلٌ فِي حَدِّ الزِّنَا:

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حَدِّ الزِّنَا، الزِّنَا هُوَ تَغْيِيبُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ حَشَفَةَ ذَكَرِهِ فِي أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ مِمَّنْ لَا عِصْمَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا شُبْهَةً، وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الزِّنَا مُخْتَصًّا بِالْقُبُلِ دُونَ الدُّبُرِ وَيَسْتَوِي فِي حَدِّ الزِّنَا حُكْمُ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالَتَانِ: بِكْرٌ وَمُحْصَنٌ.
أَمَّا الْبِكْرُ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَطَأْ زَوْجَةً بِنِكَاحٍ، فَيُحَدُّ إنْ كَانَ حُرًّا مِائَةَ سَوْطٍ تُفَرَّقُ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْمَقَاتِلَ لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ حَقَّهُ، بِسَوْطٍ لَا حَدِيدٍ فَيَقْتُلُ، وَلَا خَلَقٍ فَلَا يُؤْلِمُ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْرِيبِهِ مَعَ الْجَلْدِ، فَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ اقْتِصَارًا عَلَى جَلْدِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ يُغَرَّبُ الرَّجُلُ وَلَا تُغَرَّبُ الْمَرْأَةُ، وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ تَغْرِيبَهَا عَامًا عَنْ بَلَدِهَا إلَى مَسَافَةٍ أَقَلُّهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» وَحَدُّ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ سَوَاءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ، وَمَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ مِنْ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَحَدُّهُمْ فِي الزِّنَا خَمْسُونَ جَلْدَةً عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ لِنَقْصِهِمْ بِالرِّقِّ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَغْرِيبِ مَنْ رُقَّ مِنْهُمْ فَقِيلَ: لَا يُغَرَّبُ لِمَا فِي التَّغْرِيبِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِسَيِّدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ يُغَرَّبُ عَامًا كَامِلًا كَالْحُرِّ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُغَرَّبَ نِصْفَ عَامٍ كَالْجَلْدِ فِي تَنْصِيفِهِ، وَأَمَّا الْمُحْصَنُ فَهُوَ الَّذِي أَصَابَ زَوْجَتَهُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَحَدُّهُ الرَّجْمُ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهَا حَتَّى يَمُوتَ وَلَا يَلْزَمُ تَوَقِّي مَقَاتِلِهِ، بِخِلَافِ الْجَلْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّجْمِ الْقَتْلُ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ.
وَقَالَ دَاوُد: يُجْلَدُ مِائَةَ سَوْطٍ ثُمَّ يُرْجَمُ، وَالْجَلْدُ مَنْسُوخٌ فِي الْمُحْصَنِ. وَقَدْ رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ.
وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ، فَيُرْجَمُ الْكَافِرُ كَالْمُسْلِمِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ، فَإِذَا زَنَى الْكَافِرُ جُلِدَ، وَلَمْ يُرْجَمْ. وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَلَا يُرْجَمُ إلَّا مُحْصَنًا، فَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَهِيَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ فَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ لَمْ يُرْجَمْ، وَإِنْ كَانَ ذَا زَوْجَةٍ جُلِدَ خَمْسِينَ، وَقَالَ دَاوُد: يُرْجَمُ كَالْحُرِّ.
وَاللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ الْبَهَائِمِ زِنًا يُوجِبُ جَلْدَ الْبِكْرِ، وَرَجْمَ الْمُحْصَنِ، وَقِيلَ بَلْ يُوجِبُ قَتْلَ الْبِكْرِ وَالْمُحْصَنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ فِيهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اُقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ وَمَنْ أَتَاهَا»
وَإِذَا زَنَى الْبِكْرُ بِمُحْصَنَةٍ أَوْ الْمُحْصَنُ بِالْبِكْرِ جُلِدَ الْبِكْرُ مِنْهُمَا، وَرُجِمَ الْمُحْصَنُ، وَإِذَا عَاوَدَ الزِّنَا بَعْدَ الْحَدِّ حُدَّ، وَإِذَا زَنَى مِرَارًا قَبْلَ الْحَدِّ حُدَّ لِلْجَمِيعِ حَدًّا وَاحِدًا وَالزِّنَا يَثْبُتُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ.
فَأَمَّا الْإِقْرَارُ، فَإِذَا أَقَرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً طَوْعًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا آخُذُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ الْجَلْدِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِرُجُوعِهِ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الزِّنَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ عُدُولٍ لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ يَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا دُخُولَ ذَكَرِهِ فِي الْفَرْجِ كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَتْ شَهَادَةً، فَإِذَا قَامُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى حَقِّهَا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا أَقْبَلُهَا إذَا تَفَرَّقُوا فِي الْأَدَاءِ وَأَجْعَلُهُمْ قَذَفَةً.
وَإِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَسْمَعُهَا بَعْدَ سَنَةٍ وَأَجْعَلُهُمْ قَذَفَةً وَإِذَا لَمْ يُكْمِلْ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَا يُحَدُّونَ فِي الثَّانِي.
وَإِذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى شَاهِدَيْنِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَلَا يَجُوزُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَإِذَا رُجِمَ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ حُفِرَتْ لَهُ بِئْرٌ عِنْدَ رَجْمِهِ يَنْزِلُ فِيهَا إلَى وَسَطِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْهَرَبِ، فَإِنْ هَرَبَ اُتُّبِعَ، وَرُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ رُجِمَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ تُحْفَرْ لَهُ، وَإِنْ هَرَبَ لَمْ يُتْبَعْ.
وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَوْ مَنْ حَكَمَ بِرَجْمِهِ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَحْضُرَ رَجْمَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَحْضُرَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِحُضُورِ مَنْ حَكَمَ بِرَجْمِهِ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا».
وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَحْضُرَ الشُّهُودُ رَجْمَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ حُضُورُهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ يَرْجُمُهُ؛ وَلَا تُحَدُّ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى يُوجَدَ لِوَلَدِهَا مُرْضِعٌ وَإِذَا ادَّعَى فِي الزِّنَا شُبْهَةً مُحْتَمَلَةً مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِزَوْجَتِهِ أَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَهُوَ حَدِيثُ الْإِسْلَامِ دُرِئَ بِهَا عَنْهُ الْحَدُّ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْأَجْنَبِيَّةُ لِزَوْجَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُ وَحُدَّ مَنْ أَصَابَهَا، وَإِذَا أَصَابَ ذَاتَ مَحْرَمٍ بِعَقْدِ نِكَاحٍ حُدَّ، وَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ مَعَ تَحْرِيمِهَا بِالنَّصِّ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ؛ وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ شُبْهَةً يَسْقُطُ بِهَا الْحَدُّ عَنْهُ.
وَإِذَا تَابَ الزَّانِي بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ.
قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وَفِي قَوْلِهِ: {بِجَهَالَةٍ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا بِجَهَالَةِ سُوءٍ.
وَالثَّانِي لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا سُوءٌ وَهَذَا أَظْهَرُ التَّأْوِيلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنْ جَهِلَ بِأَنَّهَا سُوءٌ لَمْ يَأْثَمْ بِهَا، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ فِي إسْقَاطِ حَدٍّ عَنْ زَانٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمَشْفُوعِ إلَيْهِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}.
وَفِي الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ الْتِمَاسُ الْخَيْرِ لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ، وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ الْتِمَاسُ الشَّرِّ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْحَسَنَةَ الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالسَّيِّئَةَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنَّ الْحَسَنَةَ تَحْصِيلُهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالسَّيِّئَةَ دَفْعُهُ عَنْ الْحَقِّ.
وَفِي الْكِفْلِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا الْإِثْمُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ النَّصِيبُ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.

.فَصْلٌ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ:

الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ كُلُّ مَالٍ مُحْرَزٍ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا إذَا سَرَقَهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَالِ وَلَا فِي حِرْزِهِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مِفْصَلِ الْكُوعِ، فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيَةً بَعْدَ قَطْعِهِ إمَّا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ بَعْدَ إحْرَازِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثَةً قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ فِيهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُقْطَعُ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى وَإِنْ سَرَقَ خَامِسَةً عُزِّرَ وَلَمْ يُقْتَلْ، وَإِنْ سَرَقَ مِرَارًا قَبْلَ الْقَطْعِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قَطْعٌ وَاحِدٌ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ النِّصَابِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا مِنْ غَالِبِ الدَّنَانِيرِ الْجَيِّدَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٍ، وَلَا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ.
وَقَدَّرَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَقَدَّرَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَقَدَّرَهُ مَالِكٌ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، قَالَ دَاوُد: يُقْطَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَالِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي كُلِّ مَالٍ حَرُمَ عَلَى سَارِقِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ مُبَاحًا كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ فِيهِ بَعْدَ تَمَلُّكِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقْطَعُ فِي الطَّعَامِ الرَّطْبِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ مِنْ قَنَادِيلِ الْمَسْجِدِ أَوْ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ: وَإِذَا سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَفْهَمُ قُطِعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقْطَعُ، وَلَوْ سَرَقَ صَبِيًّا صَغِيرًا لَمْ يُقْطَعْ وَقَالَ مَالِكٌ يُقْطَعُ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحِرْزِ فَشَذَّ عَنْهُمْ دَاوُد وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ وَقُطِعَ كُلُّ سَارِقٍ مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ وَأَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي حَرِيسَةِ الْخَيْلِ حَتَّى تُوَلِّيَ إلَى مَعَاقِلِهَا».
وَهَكَذَا لَوْ اسْتَعَارَ فَجَحَدَ لَمْ يُقْطَعْ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُقْطَعُ وَاخْتُلِفَ فِي جَعْلِ الْحِرْزِ شَرْطًا فِي صِفَتِهِ، فَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْأَحْرَازِ فِي كُلِّ الْأَمْوَالِ وَجَعَلَ حِرْزَ أَقَلِّ الْأَمْوَالِ حِرْزَ أَجَلِهَا: وَالْأَحْرَازُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْوَالِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا.
فَيَخِفُّ الْحِرْزُ فِيمَا قَلَّتْ قِيمَتُهُ مِنْ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ، وَيَغْلُظُ وَيَشْتَدُّ فِيمَا كَثُرَتْ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَلَا يُجْعَلُ حِرْزُ الْحَطَبِ حِرْزَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، فَيُقْطَعُ سَارِقُ الْخَشَبِ مِنْهُ، وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْهُ، وَيُقْطَعُ نَبَّاشُ الْقُبُورِ إذَا سَرَقَ أَكْفَانَ مَوْتَاهَا؛ لِأَنَّ الْقُبُورَ أَحْرَازٌ لَهَا فِي الْعُرْفِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحْرَازًا لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ النَّبَّاشُ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِغَيْرِ الْكَفَنِ.
وَإِذَا شَدَّ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ عَلَى بَهِيمَةٍ سَائِرَةٍ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فَسَرَقَ سَارِقٌ مِنْ الْمَتَاعِ مَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبْعَ دِينَارٍ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ سَارِقٌ مِنْ حِرْزٍ.
وَلَوْ سَرَقَ الْبَهِيمَةَ وَمَا عَلَيْهَا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ الْحِرْزَ وَالْمَحْرُوزَ، وَلَوْ سَرَقَ إنَاءً مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ فِي الْإِنَاءِ الْمَسْرُوقِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ أَوْ مَاءٌ مَشْرُوبٌ فَشَرِبَهُ لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ أَفْرَغَ الْإِنَاءَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ثُمَّ سَرَقَهُ قُطِعَ.
وَإِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي نَقْبِ الْحِرْزِ ثُمَّ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ الْمَالِ قُطِعَ الْمُنْفَرِدُ مِنْهُمَا بِالْأَخْذِ دُونَ الْمُشَارِكِ فِي النَّقْبِ، وَلَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فَنَقَبَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَأْخُذْ وَأَخَذَ الْآخَرُ وَلَمْ يَنْقُبْ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَفِي مِثْلِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: اللِّصُّ الظَّرِيفُ لَا يُقْطَعُ.
وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ وَاسْتَهْلَكَ الْمَالَ فِيهِ غَرِمَ وَلَمْ يُقْطَعْ، وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْمَالُ بَاقٍ رُدَّ عَلَى مَالِكِهِ، فَإِنْ عَادَ السَّارِقُ بَعْدَ قَطْعِهِ فَسَرَقَ ثَانِيَةً بَعْدَ إحْرَازِهِ قُطِعَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ فِي مَالٍ مَرَّتَيْنِ، وَإِذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ مَا سَرَقَهُ قُطِعَ وَأُغْرِمَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ قُطِعَ لَمْ يَغْرَمْ وَإِنْ أُغْرِمَ لَمْ يُقْطَعْ.
وَإِذَا وُهِبَتْ لَهُ السَّرِقَةُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ، وَإِذَا عَفَا رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْقَطْعِ لَمْ يَسْقُطْ قَدْ عَفَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ سَارِقِ رِدَائِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَفَا اللَّهُ عَنِّي إنْ عَفَوْتُ، وَأَمَرَ بِقَطْعِهِ».
وَحُكِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أُتِيَ بِلُصُوصٍ فَقَطَعَهُمْ حَتَّى بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَدِمَ لِيُقْطَعَ فَقَالَ (مِنْ الطَّوِيلِ):
يَمِينِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيذُهَا ** بِعَفْوِكَ أَنْ تَلْقَى نَكَالًا يُبِينُهَا

يَدِي كَانَتْ الْحَسْنَاءَ لَوْ تَمَّ سَتْرُهَا ** وَلَا تُقَدِّمُ الْحَسْنَاءُ عَيْبًا يَشِينُهَا
فَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَكَانَتْ خَبِيثَةً ** إذَا مَا شِمَالٌ فَارَقَتْهَا يَمِينُهَا
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَيْف أَصْنَعُ بِكَ وَقَدْ قَطَعْتَ أَصْحَابَكَ؟ فَقَالَتْ أُمُّ السَّارِقِ اجْعَلْهَا مِنْ جُمْلَةِ ذُنُوبِكَ الَّتِي تَتُوبُ إلَى اللَّهِ مِنْهَا فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ حَدٍّ تُرِكَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَيَسْتَوِي فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَلَا يُقْطَعُ صَبِيٌّ، وَلَا يُقْطَعُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا سَرَقَ فِي إغْمَائِهِ، وَلَا يُقْطَعُ عَبْدٌ سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَلَا وَالِدٌ سَرَقَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ.
وَقَالَ دَاوُد يُقْطَعَانِ.